Wednesday, April 02, 2008

A short Story in Arabic Written by an Omani Writer dedicated to Sultana Khaya

نحبوها
محمد الشحري *
إلى الطالبة الصحراوية (سلطانة خيا) التي فقدت عينها في إحدى المظاهرات.
* * *
تنظر إليه بتمعن تُثبِت عليه ما جاد به بصر عينٌ واحدة، يسحبها تفكيرها من وقائع مؤتمر الأطباء الناطقين بالإسبانية، إلى ركام الأيام المنسية في إحدى خبايا الذاكرة، وحدثت نفسها "هذا الرجل ذو الندبة على جبهته أعرفه لكن لا أتذكر أين؟".
حاولت استدعاء طيف صديق من رماد منثور في المجهول، صديقا ورفيقا تزاملا معا في بلاد الأغراب في(كلية الكاريبي بسانتياغو دي كوبا) لكن ذكرى الصديق لم ينتفض من الحطام،فحاولت البحث عنه في ظلال النسيان،فلمحته جالسا مسمرا كعرب الجنوب في زاوية قصية من الماضي السعيد،فأنشرح صدرها وكمن وجد شيئا بعد أن أعياه التعب في البحث عنه،قالت "نعم إنه الرفيق ثائر ".
حط بعض منها في قاعة المؤتمر فتابعت ما تبقى منه، ثم هاجمتها أسراب الظنون، وأسرها الشك وهمست لنفسها" لا يمكن أن يكون ثائر ممثلا لُعمان!!"
هكذا تحدث (نحبوها) نفسها، وأوراق المؤتمر تتناقل بين الوفود قراءةً ومناقشةً، وتصفيقا يطارد الكلمات،و(نحبوها) تتأرجح بين الشك واليقين،استرجعت ما قاله لها (ثائر) وهو يودعها حينما أكملت دراستها عائدة إلى الصحراء "سأحمل رفات رفاقي أينما حللت في هذه البسيطة،سأذكر من انتشلنا من مهاوي الفقر والجوع والمرض وخنادق الجهل،نعم سأخلدهم في كل بقعة من ترابي،سأستحضرهم في الحياة وفي الممات".
ثم باعدت بيمنها السنين، انقطعت أخباره عنها ،رجعت (نحبوها)إلى الجزائر للتدريب في مستشفى (بن عكنون)ومن ثم حملت عدة الطبابة واتجهت إلى الخيام تداوي وتعلم الأولاد والبنات من أبناء الصحراء،و التحق بها بعد ذلك رفيقها الصحراوي (ماء العينين) ساعدها في التدريس والعلاج، وأخبرها أن (ثائر) وزملائه تركهم هناك منقطعين عن ذويهم فلا رسائل ولا أخبار تصلهم ،(ماء العينين)كان يعرف (ثائر) لكنه لم يكن يزامله في التخصص ذاته،تخصص (ماء العينين) في العظام بينما درس (ثائر ونحبوها) طب العيون.
* * *
قبل اختتام الجلسة الصباحية في المؤتمر أشار مقرر الجلسة بنقل (الميكرفون) إلى الدكتور(ثائر) ممثل عُمان،تبدد الضباب عن (نحبوها)واستسلمت لليقين،كان (ثائر) زميلا لها في كوبا،هو مبعوث من جبهة تحرير ظفار،وهي مبعوثة كذلك من جبهة البوليساريو،كانا يقودان المظاهرات في ساحات الكلية،ويبثان الحماس في زملائهم العرب، والطلبة الأجانب المتعاطفين مع القضايا العربية،وزاد نشاط المظاهرات بعد نكسة حزيران ،كانت (نحبوها) تخطب بالإسبانية مرة، وبالعربية مرة أخرى" الحقوق لا تتغير ولا ترمى كعظمة في البحر،الحرية أعز وأثمن من أي تاج وعرش،الرهبة هي التي تطوع النفوس للقبول بالمساومات والهزائم ، أيها العربي انتفض كأفاعي الهند التي تقتل بالنظر،وأعبر جراحك على أسنة الرماح ".
أما (ثائر) فإنه ما أن يقابل الجماهير ويخطب فيهم حتى يتراء له من بين الصفوف ابتسامة امرأة يختلط بياض بشرتها بلون ثوبها النيلي،تقترب سحنتها من لون السماء فيحن (ثائر) إلى ذكرى أم تناثر بين محطات المنافي ومسالك الاغتراب (عدن،بغداد،هافانا)،فتمنعه الذكريات من مواصلة الخطاب فيخنق بكاءه بين أضلاعه،يكتم أنين الحزانى بحماس الثوار ويبحث عن كلمات من آثر الكادحين .
* * *
في الوقت المخصص للاستراحة بين جلسات المؤتمر اقتربت(نحبوها) من طاولة يجلس عليها (ثائر) و بعض الضيوف،مدت له يدها صافحها ولم يعرفها، إذ كانت النظارات السوداء تخفي بعضا من ملامح وجهها.
- "ألم تعرفني ؟! قالت (نحبوها)
- "أبدا يا سيدتي ".رد (ثائر)
- "الرفيقة سعدى".
نهض (ثائر) وأمسك بكلتا يديه كف (نحبوها) وقال" سعدى أين أنت ولماذا كل هذا الغياب؟!!!".
رفعت النظارة السوداء عن عينيها، ابتسمت وقالت "تلك مشاغل الحياة والقضية".
وكمن يعرف تفاصيل مهنته أدرك (ثائر) أن إحدى عيني (نحبوها)ليست طبيعية ولا تتحرك كالأخرى،استأذن (ثائر)من زملائه بعد أن عرّفهم على (نحبوها) أو الرفيقة سعدى،اسمها الحركي حينما كانت في منظمة الشباب العربي في كوبا،ونأى بها في ركن قصي من بهو الفندق.
- سألها "ماذا حصل لعينك ؟!".
-"ألم أقل لك إني منشغلة بالقضية والشعب".
- "كما عرفتك دائما مناضلة و ثائرة بلا حدود".
- " أنت ما الذي أوفدك إلى هنا؟؟!" سألته.
تلكأ ونظر يمينا ويسارا محاولا الهرب من سؤال أخذه على حين غرة
- قالت: "لا عليك لست مطالبا بالتبرير، فقد سمعت رئيس الجلسة وهو يقدمك، المهم أين موقعك من هذا العالم".
- " العالم تغير كما تعلمين اختل توازن القوى، فبحثت عن مكانا أجد فيه اللقمة وراحة البال، الثورات انتهت، الآن عصر الأسواق المفتوحة والاستقرار والبناء، وعلينا القبول بالأمر الواقع، وأعتقد أنه من الأفضل لكم القبول بالحكم الذاتي، لتبنوا شعبكم وتطوروا الصحراء".
- "يا ثائر نحن شعب الصحراء لا نشحذ الحرية على أبواب الملوك،رؤوسنا لا تنحني لتقبيل الأيادي،نحن طلاب حق لا يروضنا الدولار ولا الكراسي الوثيرة،وفي غنى عن الشركات الأجنبية، وأسواقها المفتوحة أو المغلقة لا تعنينا،مادامت الناقة والنخلة هبات الله لهذه الصحراء ،إذا كنت تحسب أننا لا نملك شيئا فإنا لدينا كرامة من يملك كل شيء".
اخرج (ثائر) سيجارة أشعلها،سحب كتلا دخانية وخزنها في جوفه ثم أطلقها مع تنهيدة خرجت من سكينة الأعماق،وقاطع (نحبوها)التي استرسلت في العبارات، كأنها لا تزال تلك الفتاة التي تخطب في ساحة (الفريدو جبور معلوف)(1).
- "كم أنت مثالية يا رفيقتي!!".
- " حاولت فقط أن أذكرك ، أنسيت (ماركس) حينما قال (ليس من اليسير على المرء أن يتذلل من أجل الحرية لقد سئمت النفاق والغباء وفظاظة الموظفين الرسميين وتعبت من طأطأة الرأس) ألم تكن هذه العبارة منقوشة على جدار غرفتك؟".
احمر وجه (ثائر) كمن تلون قميصه بدم كذب وقال" يا رفيقة سعدى كفِ عني طعناتك واسمعيني،أنا لم أكن حرباءً يغير لونه حسب الأمكنة أنا مثلك ولدت في العراء رضعت من الناقة وجلت في المراعي وتبنتني الثورة وعاهدت نفسي على الوفاء لها،لكن حين عدت وجدت كل شيء قد تبدل رفاق الأمس أصبحوا تجارا أثرياء شعارات البارحة غدت محرمة لا يتبناها إلا العاطلون عن العمل،وجدت نفسي غريبا بين أهلي وحتى لا يركبني الجنون أو يتغلب عليّ السُكر غضضت البصر ورضيت بهذا المصير".
ترفع (نحبوها) اللحاف عن عينها تثبته فوق الرأس وتقاطعه "أنا متفهمة لكل ما حدث لك ولكن لا أريدك أن تفكر مثل الآخرين الذين يعرضون علينا حكما ذاتيا،نحن لا خيار لنا سوى الصمود،في داخلي أجد شيئا قويا متحدا ومضاء،الحرية يا رفيقي لا توهب ولا تعطى،تؤخذ عنوة بالدماء والرصاص أو بالكلمة الصادقة أو بأرواح المتحفزين للحياة،الحياة ليست أكلا ونوما وصباحا يشرق وموتا منتظرا في الختام،الحياة هي أن تشعر بأن لوجودك قيمة ولبقائك معنى".
- "هل اتخذت كل هذه الخطبة مهربا من سؤالي عما جرى لعينك" قال (ثائر).
- ابتسمت وعلامات التعجب على محياها"ألم أقل لك أنك تغيرت؟،أبدا لم أخجل يوما من عيني ما دمتُ ضحيتُ بها من أجل قضية شعبي،حين عدتُ للصحراء وجدت أبي مقتولا وإخوتي في المعتقل،فجمعت بعض أمهات السجناء ونظمنا مظاهرة لإطلاق سراحهم أو السماح لنا بمقابلتهم،فمنعنا العسكر وحالوا بيننا وبين بوابة السجن،كنت في مقدمة الصف فضربني ضابطا بهراوته على عيني،فخرجت في طرف العصا،ولكن عيني ليست أغلى من دماء الذين ماتوا في سبيل الحق،يستطيعون أن يقتلعوا عيني من مكانها، لكنهم لن يستطيعوا أبدا أن يطفئوا نور السماء، إن الفجر آت هاتكا أثواب العتمة ،صوتنا الهادر لا تسكته أحذية العسكر،أملنا أن يعيش الصحراوي حياة تليق بتضحياته وكرامة يستحقها هذا الشعب المعذب".
- " قد اتفق معك أو اختلف ليس ذلك مهما، آه ...نسيت أن أسألك عن (ماء العينين)، أين هو؟!".
- " هو الآخر انسحب من صفوفنا، سمعت أنه فتح عيادة في الدار البيضاء، أختار مكانا آخر مثلك " قالتها بسخرية.
- " لماذا تسميه انسحابا؟!، لماذا لا يكون ذلك عملا قوميا ونبيلا للحفاظ على وحدة التراب الوطني؟". قالها (ثائر)وهو يحاول تضميد جراح الكلمات التي تصوبها (نحبوها) إلى صميم ذاته.
- " لا تكن ساذجا إلى هذا الحد،الم تسمع بأن الأقلية دائما على حق؟!!،ثم إن الملوك لا يأتمنون أحدا إلا بعد أن يخصوه".
- "لماذا تريدون تعميق جراح الأمة؟، آلا يكفي العرب هذا التشتت وآلام التشرذم؟!!."
- " كن كما تشاء ومع من تشاء، ولكن تذكر أنه من المحزن أن يكون لديك حلم لم يتحقق ،إذا أنت تناسيت ما كنت مؤمنا به فأعلم بأن آخر دعانا أن الثورة خيار المقهورين،لا أستطيع أن أتحدث إليك أكثر من هكذا" كان هذا الرد الأخير (لنحبوها)،تاركة ظفار يسبح في ضباب من دخان سيجارته.
في الأيام التالية من أيام مؤتمر الأطباء غاب (ثائر)عن الحضور،وظن زملائه في الوفد، أنه ذهب لمختبر الأبحاث الطبية في المدينة،ولكنه اختفى ماحيا كل أثر،قيل فيما بعد أنه شوهد آخر مرة يمر في الحي الذي توجد فيه السفارة الفنزويلية.
(1) محامي الثورة الكوبية ووزير العدل فيما بعد.
*كاتب وقاص من عُمان
Mohmed_shahri@yahoo.com

No comments: